منھج علماء ديوبند
إن مذهب علماء ديوبند هو نفس مذهب أهل السنة والجماعة في الأصول والفروع، ولايحيدون عنه قيد شعرة؛ بل ظلوا مدافعين عنه بأقصى ما يمكن،فهم جامعون في العقائد بين عقيدة السلف وعقيدة الخلف، ومتقيدون في الفقه بالفقه الحنفي مع إعمال دراسة وتحقيق في كثير من المسائل، ويُعْملون الرأي والاجتهاد في المسائل المستجدة، كما أنهم مهتمون كثيرا بتزكية الباطن وتهذيب الأخلاق، فاتصلوا بالتصوف المنضبط الذي لا يخرج عن الكتاب والسنة، كما أنهم لا يفوتهم قيادة الأمة من الناحية السياسية، فقادوا في الماضي حركة تحرير الهند من الاستعمار البريطاني، وهم وأبناؤهم وتلاميذهم حتى اليوم قادة المسلمين وساستهم في الهند وباكستان وبنغلاديش، وبالنسبة لاحترام السلف وجميع الشخصيات التي لها منة عظيمة على الأمة الإسلامية في مجال من المجالات، فهم في ذلك يمارسون التأدب البالغ، ولايسيئون الظن بهم، وإن صدر عن واحد منهم خطأ فلا يجعلونه ذريعةً للنيل من شأنهم والحط من مكانتهم؛ بل يعتقدونه قطرةً من بحار حسناتهم، والماء إذا بلغ القلتين لا يحمل خبثًا، فما ظنكم بقطرةٍ في بحر الحسنات؟
فهذا هو مذهب علماء ديوبند، الذي جمع بكل اتزان واعتدال بين الدين والدنيا، وبين المادة والروح، وبين النصوص وشخصيات الأمة، وبين الظاهر والباطن، وبين التصوف والفروسية.
وما أصدق قول العلامة القاضي محمد تقي العثماني الباكستاني في مقدمة كتاب "علماء ديوبند اتجاههم الديني ومزاجهم المذهبي" للشيخ محمد طيب القاسمي:
"فلم تكن هناك أية حاجة في الواقع إلى كتاب مستقل يتناول مذهب علماء ديوبند بشرح أو إبانة؛ لأنهم ليسوا فرقة أو جماعة شقّتْ طريقًا فكريا أو عملياً يختلف عن طريق جمهور الأمة المسلمة، بل إنهم يتبعون في تفسير الإسلام وعرضه نفس المسلك الذي سلكه جمهور علماء الأمة عبر أربعة عشر قرنًا. إن الدين وتعاليمه الأساسية إنما تنبع من الكتاب والسنة، وإنها - تعاليم الكتاب والسنة - في شكلها الشامل هي أساس مذهب علماء ديوبند.
خذ أي كتاب موثوق به في عقائد أهل السنة والجماعة، واقرأه ستجد أن مذهب علماء ديوبند هو كل ما جاء فيه من العقائد ، واقرأ أيّ كتاب موثوق به في الفقه وأصول الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، ستجد أن ما جاء فيه من المسائل الفقهية والأصولية هو المذهب الفقهي لدى علماء ديوبند؛ وراجع أي كتاب صحيح في الأخلاق والإحسان، ستجد أنه هو مرجع علماء ديوبند في الإحسان وتزكية الأخلاق. إنهم إنما يتخذون أولئك الأشخاص الذي أجمعت الأمة على جلالة قدرهم ومكانتهم العلمية والعملية - بدءًا بالأنبياء الكرام عليهم السلام، ومرورًا بالصحابة والتابعين، وانتهاء بأولياء الأمة وصلحائها - نماذج جديرة بالاتباع والتقليد.
وجملة القول: إنه ليس هناك ناحية من نواحي الدين ينحرف فيها علماء ديوبند قيد شعرة عن التفسير المُتوَارَث للإسلام وعن مزاجه وذوقه الأصيلين. ولذلك كله لا نرى حاجة ما إلى كتاب مفرَد لشرح مذهبهم . فلو شاء أحد أن يطلع على مذهبهم فعليه بمراجعة الموثوق به لدى جمهور علماء الأمة، من تفاسير القرآن وشروح الحديث وكتب الفقه الحنفي والعقائد والكلام والإحسان والأخلاق، التي تتحدث عنه - عن مذهبهم - في تفصيل؛ ولكنه استجدّ هناك أمران في العصر الأخير تَسبّبَا في شعورنا بالحاجة إلى إبانة مذهب علماء ديوبند ومزاجهم الديني وذوقهم الإسلامي في كتاب مستقل .
الأمر الأول: أن الإسلام دين الاعتدال، وحينما وصف القرآن الكريم هذه الأمة بـ "أمة وسط" أعلن أن من مزاياها الأساسية هو التوسط والاعتدال، وبما أن علماء ديوبند يتبنون هذا الدين الوسط، فإن مذهبهم ومزاجهم وذوقهم الديني معجون بهذا الاعتدال، وطريقهم يمر بين الإفراط والتفريط بشكل لا يتورط ذيلهم في أي من الطرفين المتقاصيين، ومن خصائص الاعتدال أن الإفراط والتفريط كليهما يشكوانه ويتأذيان به؛ فالإفراط يتهمه بالتفريط، والتفريط يعيبه بالإفراط.
ومن ثم فإن التوجُّهات المتطرفة قامت ضد علماء ديوبند بدعاياتٍ متضاربةٍ، فمثلا من اعتدال علماء ديوبند أنهم بجانب إيمانهم الكامل بالكتاب والسنة يثقون بالسلف الصالحين ويتبعونهم، وتُشَكِّل لديهم بياناتُ السلف وتعبيراتهم وتعاملاتهم أهمية أساسية في شرح وتفسير الكتاب والسنة، كما أنهم يرون حبهم والإعجاب بهم عنصرًا لمذهبهم؛ ولكنهم - إلى جانب ذلك - لا يَدَعُوْنَ هذا الحب والإعجاب يصل إلى العبادة وتقديس الشخصية، وإنما يضعون في اعتبارهم دائمًا مبدأ إنزال كل حقيقة في منزلها الصحيح.
فالسادة الذين يزعمون الإيمان والعمل بالكتاب والسنة، ولكنهم لا يرضون بإعارة السلف الصالحين أية مكانة أساسيّة في شرحهما وتعبيرهما، وإنما يثقون بأن عقلهم وفكرهم كافيان في فهمهما وتعبيرهما، يتهمون علماء ديوبند بتقديس الشخصية والاعتقاد الزائد في أشخاص السلف، ويقومون بالدعاية ضدهم بأنهم اتخذوا سلفهم آلهة ، ونعوذ بالله من ذلك!
وفي جانب آخر فإن السادة الذين ارتفعو بحب السلف والإعجاب بهم إلى عبادة الأشخاص في الواقع، يتهمون علماء ديوبند بأنهم لا يحملون أي حب وإعجاب في قلوبهم نحو السلف أو إنهم يسيئون الأدب - معاذ الله - مع هؤلاء العلماء الأجلة ذوي المكانة المحترمة في الإسلام.
ومن أجلِّ هاتين الدعايتين المتضاربتين ضد علماء ديوبند، يعود الإنسان الذي لا يعلم حقيقة الحال في نصابها الصحيح، متورطاً في الشكوك في شأنهم. ولهذا كله كان هناك شعور في أوساط ديوبند بضرورة بيان مذهب علماء ديوبند المعتدل في شكل موضوعي إيجابي شامل يجعل رجلاً محايدًا يفهم المذهب على حقيقته".
يقول العلامة الشيخ المقرئ محمد طيب القاسمي المعروف في الديار الهندية بـ"حكيم الإسلام" في كتابه الذي وضعه لشرح وإبانة مذهب علماء ديوبند:
"النظرة العادلة تؤكد أن ما يتميز به أهل السنة والجماعة من الجمع بين القانون – الشريعة - وبين الشخصيات، والاهتمام بفهم مرادات الكتاب والسنة من خلال درس وتدريس الأساتذة الثقات دون الاعتماد على الرأي الشخصي، والاعتناء بتحقيق استقامة الفهم وتزكية القلب عن طريق ملازمة المربين الثقات ومعاشرتهم وفي ضوء توجيهاتهم وإرشاداتهم، والتعلق في شعبتي العلم والأخلاق بصاحب الشريعة -عليه الصلاة والسلام- من خلال السند المتصل، واحترام السلف والتأدب معهم والاعتراف بعظمتهم فيما يخص الشعبتين؛ كل ذلك مبادئ تُشَكِّلُ بمجموعها مذهبَ أهل السنة والجماعة. وإن علماء ديوبند يعضون بالنواجذ على هذا المذهب بالذات دونما نقص وزيارة.
أما الاستناد العلمي فهناك أسناد القرآن والحديث التي لا يوجد لها مثيل لدى أي أمة من الأمم على وجه الأرض؛ ولكن علماء ديوبند لا يقبلون كتب بقية العلوم والفنون الدينية كذلك إلا إذا كانت مُسْنَدَةً، حتى الكتب الأساسية في الفقه والكلام لا تُعْتَبَرُ إلا مسندة يتصل نسبها بأئمة الفقه والكلام الثقات، وبلغوا في الاهتمام بهذا الجانب أنهم لا يعتدّون بكتب التزكية والإحسان الأساسية أيضا إلا إذا كانت ذات سند؛ على حين إنها لا تتعلق بأحكام الحلال والحرام الظاهرة، وإنما تتعلق بأحكام إصلاح الباطن، التي لا علاقة لها مع قضاء القاضي أو موضوع الحكومة أو ما تقوم عليه الشؤون الدنيوية. حتى إن الأحوال والكيفيات القلبية التي تنشأ من المجاهدة في العبادة وذكر الله عز وجل، لا يُعتدّ بها عندهم - علماء ديوبند - إلا إذا كانت مُتَوَارَثة لها شجرة نسب موثوق بها. بل إن ذوقهم ومزاجهم المذهبي هو الآخر متصل بالصحابة الكرام وصاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام بسند متصل.
والشعبة الأولى وهي (العلم والتعليم) لا يمكن أن يتحقق - في الأغلب - فيها السند والاستناد وصحة الذوق وسلامة الفهم للمرادات الربانية وإنزالها في موضعها الصحيحة، إلا عن طريق الدراسة والتدريس والتربية والتمرين، فلو أخذنا من شعبة العلم علم الكتاب والسنة لوجدنا أن أساسه أيضاً إنما جُعِلَ الدراسةَ والتدريسَ؛ فحينما استنكر القرآن الكريم إعجابَ اليهود برأيهم وتقديس النصارى للشخصيات، وأمرهم أن يكونوا علماء ربانيين، فلم يجعل الطريق إلى الربانية مجرّد قراءة الكتاب أو مطالعةَ الأوراق؛ وإنما جعل الدرس والتدريسَ هو طريقها، فقال:
﴿وَلَكِنْ كُوْنُوْا رَبَّانِيِّيْنَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُوْنَ الْكِتَابَ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُوْنَ﴾(آل عمران / 79)
يقول العلامة الخازن علي بن محمد علاء الدين [المتوفى 741هـ / 1341م] في تفسيره "لباب التأويل في معاني التنزيل" المعروف بــ"تفسير الخازن" في تفسير الآية :
"أي كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب؛ فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً"(تفسير الخازن: 1/667)
مما يوضح أن "الربانية" إنما تتأتى عن طريق الدراسة والتدريس والتعليم، ولا تتحقق بمجرد تصفّح الأوراق ومطالعة الكتب، نعم! لا تتحقق الربانية في غنىً عن التدريس والدراسة كما لا تتحقق إذا كان التشاغل بهما بسوء النية أو بسوء الهدف، وإذاً فلا يكون الذنب هو ذنب الطريق، وإنما يكون الذنب هو ذنب النية التي تعني أن صاحبها لا يود أن يكون ربانياً.
وحين خاطب الله تعالى اليهودَ والنصارى بقوله "وَلَكِنْ كُوْنُوْا رَبَّانِيِّيْنَ"فكأنّه نبّههم قائلاً: أيها اليهود والنصارى! إذا كنتم مشتغلين بالدراسة والتعليم اللذين هما المؤديان حتماً إلى الربانية، فلماذا لم تُوَفَّقُوْا أن تتحولوا ربانيين ؟ فلماذا ارتكبتم جريمة الإشراك بالألوهية والإشراك بالنبوة والإشراك بالكتاب؟ومعنى ذلك أن هناك خللاً في نيتكم .
ودل ذلك دلالة واضحة على أن الطريق إلى الربانية أو بكلمة أخرى أن الطريق إلى تحصيل العلم الديني حسب القانون العادي الأغلب إنما هو الدراسة والتدريس، وليس مجرد قراءة الكتب أو دراستها، فلو لم ينتهج أحد هذه الطريق المؤدية إلى الربانية، أو انتهجها بسوء نية وبأسلوب خاطئ، لما استحق أن يُسمّى ربانياً أو عالماً دينياً؛ لأنه في هذه الحالة لم ينتهج طريق العلم الصحيح.
ومن البين أن الدرس والتدريس والتعليم والتربية أمور إنما تتعلق بالشخصية وتتوقف عليها، ولا يمكن أن تتحقق بمجرد معالجة الأوراق وفي غنى عن الأستاذ المربي ومصاحبته وتمرينه وترويضه، فقد كانت أوراق الكتاب من قبل بيد اليهود وكانوا يقرؤونها؛ ولكنهم كانوا محرومين من تعليم المعلمين وتربيتهم، وكانوا قد اقتصروا على قوة الدراسة منصرفين عن الشخصيات المقدسة، مما جعلهم يشب زيغهم النفسي، ومن ثم قال التابعي الجليل الإمام ابن سيرين أبوبكر محمد [المتوفى 110هـ / 729م]:"إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم".
وإذا كانت الحال هذه فإنه سواء أكانت المسائل المُسْتَمَدَّة من مجرد ألفاظ النصوص أو المستقاة من مجرد إعمال التفكير - الذي يكون لا دخل فيه لتربية المربين أو تعليم المعلمين، ولا للذوق المُتَوَارَث والتهذيب الفكري - فإنه لا يعود هناك طريق لفهم المرادات إلا تخيل النفس غير الحظيّة بالتربية، الأمر الذي ليست له أي قيمة فيما يتعلق بالدين؛ حتى لم يستثن الله عز وتبارك شخصَ النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً من هذا الأسلوب للتعليم، وإنما قام تبارك وتعالى بنفسه بتعليمه صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال:﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيْمًا﴾(النساء / 113)
وإذا كان الأمر كذلك فإن أمته صلى الله عليه وسلم كانت أحوج ما تكون إلى ذلك؛ فجعل صلى الله عليه وسلم هذه الطريق نفسها لأمته، فقال:"إنما بُعِثْتُ معَلمًا.
وجملة القول: إن تحصيل العلم في مذهب أهل السنة والجماعة المُتَّبَع من لدن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يتوقّف على العالم المربّي الثبت المسند، ولا يتعلق بمجرد أوراق الكتاب. ولذلك فإن علماء ديوبند كذلك اتّخذوا تعليم وتدريس المعلمين الثقات أساسًا تعليميّاً لهم، سالكين في ذلك مسلكَ أهل السنة والجماعة، واختياراً منهم لأسلوب أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالتعليم، أقاموا شبكة من آلاف المدارس الإسلامية في داخل البلادوخارجها، تلك التي لا تقوم على الخطابة والوعظ فقط، وإنما تقوم على الدراسة والتدريس.
أما تطهير الأخلاق وتزكية القلوب فقد جعل في شأنه علماءُ ديوبند التزكية والتربيةَ مبدءاً أساسيّاً. والمنهج المتبعُ في ذلك هو توجيه المربي، وتقوى الله، والمجاهدة في العبادة، وترويض النفس عليها؛ حيث لا يمكن بدون ذلك أن تترسخ في القلوب الكراهيةُ تجاه الكبائر والصغائر، والرغبةُ في الطاعات والعبادات؛ ولذلك فقد اعتبر الله عزّ وجل بيعة أوليائه لنبيه صلى الله عليه وسلم بيعةً منهم له تعالى:
﴿إنَّ الَّذِيْنَ يُبَايِعُوْنَكَ إنَّمَا يُبَايِعُوْنَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أيْدِيْهِمْ﴾(الفتح / 10)
وعلى ذلك فإن الله تعالى لم يَدَعْ عباده يقتصرون على المُدَوَّن من فن الإحسان أو المصطنع الموضوع من الرياضات، وإنما دلّهم في هذا الصدد على الأصل الأصيل وهو التقوى، وعلى ما تؤدي إليه من النتائج الخيرة، وعلى التمرن عليها بشكل ثابت ، فقال تعالى:
﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾(البقرة / 282)
وقال في معرض الحديث عن الخضر عليه السلام :
﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَّدُنَّا عِلْماً﴾(الكهف / 65)
وكذلك فقد تكفل تعالى تعليمَ وتربيةَ الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما تنص على ذلك آيات عديدة في القرآن، نعرض عن سردها تفادياً من الإطالة.
فعلماءُ ديوبند أيضاً اعتمدوا فيما يتعلق بإصلاح الأخلاق وتزكية النفس على أسلوب التزكية والتربية، وخرّجوا مشايخ ربانيين عملوا على تعميم "الإحسان" الذي دلّ عليه الكتاب والسنة؛ وذلك عن طريق التزكية والتربية، وبذلك فقد استطاعوا القيام بإصلاح قلوب الآلاف من الناس.
وكما هو المعلوم أن هذين القسمين: العلم والأخلاق أو علم الظاهر وعلم الباطن، أوجِبَ في شأنها صحبةُ الصلحاء ومعيّةُ الأتقياء؛ حيث لا يُتَصَوَّرُ أن تعود بدون ذلك المفاهيمُ والمراداتُ العلميةُ جزءاً من الذهن الإنساني، وأن تثبت الأخلاق الظاهرة والقيم المثلى في القلوب، وأن تتكيف الروح مع الأحوال الطيبة والخواطر الصادقة . ومن الواضح أن هذا الغرض لم يكن ليتحقق بمجرد الفتوى ما لم تصاحبها التقوى التي لم تكن لتكون فاعلة ما لم تعاضدها صحبة الصديقين؛ ولذلك فقد قرن القرآن الكريم الأمر بالتقوى مع الأمر بصحبة الصادقين، فقال:
﴿يَآ أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوا اللهَ وَ كُوْنُوْا مَعَ الصَّادِقِيْنَ﴾(التوبة / 119)
وكذلك فقد اعتبر القرآن هذه المعيةَ مصدراً لانشراح الصدر والحالات الباطنة والأفعال الحسنة للقلوب؛ فلما نشأ في قلب أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعضُ القلق من أجل الملابسات، طَمْأنَه النبي صلى الله عليه وسلم بالإحالة إلى هذه المعية ، فقال:
﴿لاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا﴾(التوبة / 40)
وجملة القول أنه سواء أكان تحصيل العلم أو تكميل الأخلاق، إن الإسلام يطرح الاتّصال في الإسناد من العلماء الربانيين فيما يتعلق بالعلم وصحبة الصالحين وإصلاح الأخلاق، يطرحه كحجر للزاوية، ولذلك فقد انصبَ اهتمامُ علماء ديوبند أيضاً فيما يتصل بتعليمهم الظاهر والباطن على التقوى الداخلية وصحبة عباد الله الصالحين الخارجية؛ وذلك اتّباعاً منهم للسلف الصالح.
علماء ديوبند من أهل السنة والجماعة في الصورة والحقيقة:
ومجموع هذه الأمور الأساسية هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي يأخذ به علماء ديوبند بشكل متكامل، بل يصح أن يقال: إنهم بدورهم أهل السنة والجماعة اسماً و رسماً، وصورة وحقيقة، وعلماً و عملاً، وذوقاً ووجدانا، فلا حاجة إلى شرح اتجاههم الديني ومزاجهم المذهبي بشكل مستقل؛ بل إن ما أسلفناه من الاتجاه الديني والمزاج المذهبي لأهل السنة والجماعة، في الصفحات الماضية، وما دل على أسسه الكتابُ والسنة، هو نفسه تفصيل للمزاج الديني لدى علماء ديوبند؛ فهم ليسوا بحاجة إلى شرح مزيد وتفصيل جديدٍ أو لقب مستحدَث، وفعلاً ليس لهم لقب مستحدث.
أما "الديوبندي" أو "القاسمي" فهو لقبهم التعليمي الانتمائي ، وليس لقبهم المذهبي والطائفي، كما يحاول معارضوهم أن يعرَّفوهم في الجماهير كفرقة مستقلة، وهم براء من هذه التهمة، كما أوضحنا ذلك في البنود التمهيدية.
فهم -علماء ديوبند - لسوا أهل سنة مصطنعين حتى يُطْلَقَ عليهم لقب "الطائفيين" وليسوا من أهل السنة المزعومين الذي ولدتهم الحوادث والسوانح أو الطقوس والتقاليد الرائجة المُبْتَدَعَة، ولا يحملون دستوراً سماوياً؛ وليسوا فرقة متحررة لا يشرف عليها المعلّمون الثقات والمربون المهذبون، فيكونون لا يستندون إليهم ولا يصدرون عنهم؛ بل إن ذوقهم وعملهم، وهيئتهم العملية، كل ذلك يُوْجَد لديهم متوارثاً متصلاً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ماراً بالسلف الصالحين فالرعيل الأول من الأمة.
ومن أجل تشاغلهم الدائب المستمر بعلوم الكتاب والسنة تعلماً وتعليماً وفهماً وتنزيلاً وتطبيقاً، تَوَلَّد لديهم الشعُورُ القويّ بما يرضاه الله ولا يرضاه؛ وبالحلال والحرام، وبالمكروه والمستحب، وبالسنة والبدعة، وبالتوحيد والشرك، وحصلوا على العلم المُفَرِّق بين ما يصح وما لا يصح، الأمر الذي لم يكن ليُوْجَد بدون التقوى:
﴿إنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾(الأنفال / 29)
وفي جانب آخر أكسبتهم ملازمة الشخصيات المربية الصالحة، وحبُّهم والإعجاب بهم، والتربي عليهم، والصدور عن تهذيبهم وتثقيفهم ، عواطفَ فائضةً من الحب: الحب لله ولرسوله وللصحابة وأهل بيت الرسول والأئمة المجتهدين وأولياء الله والعارفين به والعلماء وحكماء الإسلام ، الأمر الذي لم يكن ليُوْجَدَ بدون المداومة على الذكر والتفكير في جانب الآخرة، والإنابة إلى الله، والانصراف إلى كتاب الله، وسنة رسوله تعلماً وتعليماً ونشراً وتعميماً، أي عندما يكون الإنسان مصداقاً لقوله تعالى:﴿اَلَّذِيْنَ يَذْكُرُوْنَ اللهَ قِيَامًا وَّ قُعُوْداً وَ عَلَى جُنُوْبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُوْنَ فِيْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ﴾(آل عمران / 191)
وإلى جانب ذلك أكسبهم الجمعُ بين الكتاب والشخصية، أي بين عنصري الهداية كليهما، الاعتدالَ والاتزان وسعة الأخلاق.
إن حبهم للشخصيات الصالحة زوّدهم بالتواضع لله وإنكار الذات، الأمر الذي حال دونهم ودون الغلو والاستكبار والغرور يتسرب إليهم. أما العلم بالكتاب والسنة فقد أكسبهم المعرفةَ بالحدود والمراتب والمراكز ، مما أثار فيهم الإباءَ والاعتدادَ بالنفس؛ فتفادَوا من الذل النفسي لصالح الخلق والعبودية لغير الله تعالى. وعلى ذلك فهم – علماء ديوبند ليسوا متورِّرطين في الشبهات التي كانت دائماً فتنةً للعلماء، والتي أوقعت اليهود في الكبر والاستعلاء والجحود والنكران؛ وبالتالي جعلتهم مغضوباً عليهم. وليسوا مُسْتَعْبَدِيْن للشهوات والأهواء التي كانت دائماً فتنة للعاملين ، ومؤدية إلى البدع والمحدثات ؛ وبالتالي إلى الشرك ، والتي جعلت النصارى عبيداً للشخصيات المقدسة فانتهوا إلى الضلال؛ بل إنهم تجنبوا طرفي الغلو كليهما، وصاروا جماعة حقيقية لأهل الحق، لا يصح أن يُطْلَقَ عليها إلا "أهل السنة والجماعة" فهم مُتَفَادُوْنَ من الإفراط والتفريط وقائمون على الاعتدال؛ وعلى ذلك فهم متواضعون وأبَاةٌ، منكرون لذواتهم ومحتفظون بشخصياتهم، أغرارٌ ولكن لا يغرّون أحداً، مطيعون للسلف؛ ولكنهم بعيدون كل البعد عن تصور ربوبية الخلق، غير مُعْجَبِيْنَ بأنفسهم؛ ولكنهم يتمتعون بالطموح،فهذا اللقب المركب من "أهل السنة والجماعة" لا ينطبق على طائفة بمثل ما ينطبق عليهم لامتيازهم بالصفات والخصائص التي أشرنا إليها، ولكل من اسمه نصيب.
وخلاصة القول أن مذهب علماء ديوبند ومزاجهم المذهبي لا يقتصران على "السنة" وحدها، حتى يصيروا جماعة قد نشأت آخذة فقط بمفهومها اللفظي أواللغوي، صادرة عن نزعاتها الشخصية، فتتعرض للأمواج المتلاطمة في خضم "السنة" أو "القرآن" تعرضاً عشوائياً تُمْنَى به لثقتها برأيها الشخصي، فلا تجد دالاًّ يهديها للصواب.
وكذلك لم يتكون مزاجهم من مجرد "الجماعة" حتى يصبحوا طائفة متعصبة، صادرة عن الإعجاب الزائد بالشخصيات، والثقة المطلقة والمحاكاة الظاهرة لكل قول من أقوالها، وكل فعل من أفعالها، وكل حال من أحوالها؛ فلا تحمل دستوراً، ولا تسير في ضوء من الدلائل والبينات؛ وإنما يكون جل اعتمادها على تقليد الآباء والأجداد.
إن علماء ديوبند يتجنبون جانبي الإفراط والتفريط لكلتا الطائفتين هاتين، فهم يحملون قانون الشريعة أي الكتاب والسنة والفقه الناشئ منهما، ويحملون قانون الإحسان والتزكية والتربية التي يقوم بها أشخاص المربّين من العلماء الربانيين الصالحين.
وعلى ذلك فهم يتمتعون بالطريق وبهداة الطريق وبالصراط و بــ"الَّذِيْنَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" وبسبيل الإنابة وجماعة المنيبين. وباجتماع العنصرين استقرَّت قلوبهم على الاستقامة، فتوصّلت إلى مرتبة "القلب السليم" وتمتعت نفوسُهم بالتعليم والعلم بالأحكام، وبمعرفة ذات الله تعالى وصفاته، وحب الله عز و جل والخشية منه.
وعلى ذلك فاتجاهُ علماء ديوبند الديني أو مزاجهم المذهبي إنما تَشَكَّلَ باجتماع "السنة" و "الجماعة"؛ ولذلك فتسري روح الاعتدال والتوسط في جميع أحوالهم وكيفياتهم من المُعْتَقَدَاتِ والعبادات، والأخلاق والمعاملات، والسياسيات والاجتماعيات.
ومن ثم فبموجب مذهبهم المركب من "الشخصية" و "القانون" لم يكن منهجهم في فهم مرادات الكتاب والسنة ذلك المنهجَ الذي عم اتباعُه في هذا "العصر الجاهلي" حيث قد نهض المُثَقَّفُوْنَ المزعومون والمفكرون المزعومون ليتخذوا منهجاً لفهم مرادات الكتاب والسنة حسب هواهم. ومن المناهج المصطنعة تلك الرأيُ المجرد الذي يُتَّخَذُ نظراً لأوراق الكتاب والسنة وحروفهما وبمساعدة من الذهن – ذهن القارئ –ويُعْتَبَرُ ذلك الرأي هو الرأيَ الربانيَّ. ومنها الاعتماد على مجرد لغة العرب، أي تحديد الرأي الرباني في ضوء مجرد أساليب العرب في الكلام واستناداً إلى العلم بالعربية والبراعة في الأدب العربي. ومنها الاعتماد على التقاليد والاتجاهات الشعبية، أي يُصاغ ا لكتاب والسنة في قالبها، ويُقَرَّرُ للنصوص المعاني التي تتبادر في ضوء تلك الأعراف والتقاليد التي تتبعها عامة الناس. ومنها الاستناد إلى مُقْتَضَيَات العصر، أي تُتخذ مُقْتَضَيات الحاضر عماداً ودليلاً لفهم مرادات النصوص، ويُصْهَرُ ما في الكتاب والسنة في قالبه، و يقال: إن ذلك هو المراد الإلهي. وما إلى ذلك من الطرق التي اصطنعها الناس من عند أنفسهم.
ولكن مذهبَ علماء ديوبند يختلف في هذا الشأن عن جميع هذه الطرق المصطنعة المُتَّبَعَةِ؛ فهم لا يعتمدون في فهم نصوص الشريعة على الرأي ، ولا على مجرد التضلع من اللغة العربية، ولا على التقاليد والأعراف، ولا على الأساطير والحكايات، ولا على نظريات العصر ومُقْتَضَيات الزمان؛ وإنما يعتمدون على التعليم والتربية القائِمَيْن على العنصرين الأساسيين: الكتاب والسنة، والمعلم المربي، الذكي القلب، الثاقب النظر، الزكي الفؤاد، مع الشرطين الهامين، وهما الإسناد والنفسيّة التي هذّبتها التربية المُتَوَارَثَة؛ كما يتمثَّل ذلك في أن الصحابة تعَلَّموا الكتاب والسنة من النبي صلى الله عليه وسلم وأن التابعين تعلّموهما من الصحابة، وأن اتباع التابعين تعلّموهما من التابعين، وأن الأجيال اللاحقة أخذتهما ممن سبقها بشكل متَوَارَث وبإسنادغير منقطع وبسلسلة متصلة؛ وكسبت فيما يتعلق بفهم القرآن والحديث، بصحة من فوقها وتربيتهم، ذلك الذوقَ المُتَوَارَث الذي كانوا يمتازون به، وعن تعليمهم وتربيتهم تلقَّوا مرادات الكتاب والسنة المقررة من عند الله تعالى. وتلك هي الطريقة التي لا يزال يتوارثها الخلف عن السلف بالسند العلمي والعملي، ومن خلالها ظلت تُرَسَّخُ في الأذهان المراداتُ المُتَوَارَثة المنتقلة من الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنه إلى الصحابة، ومنهم إلى التابعين، ومن أتباع التابعين إلى الأجيال التالية المتلاحقة لحد اليوم. ولم يكن بالإمكان أن تكسب الأذهانُ أهليةَ هذا الانصباغ وتلقّي هذه المرادات المأثورة من خلال مجرد الورق، أومجرد الدراسة، أو الأعراف والتقاليد، أوالظروف الموقتة، والملابسات الحاضرة، أو النظريات التي يطرحها الزمان، أو اللغة والأدب، أو الأساطير والقصص، ما لم تتمتع بتربيةوصحبة الشخصيات المتذوقة للشريعة، المتشربة لروح الدين.
ومن الحقيقة الجلية أن الهداية الحاصلة من اجتماع العنصرين، ستكون مُنَزَّهَةً من الإفراط والتفريط، قائمةً على الاعتدال، ومن الطبيعي أن المهتدين بها سيتمثّل فيهم الاعتدالُ الذي يؤدي أولاً إلى تجردهم كلياً من العنصر الفاسد للعصبية الجاهلية.
ومن ثم ظل علماء ديوبند المتلقّون للتربية عن هذه الطريق ممتازين بنزاهتهم، من حيث المجموع، من خصائل الجاهلية تلك؛ وظلوا دائماً على مستوى مثاليّ من الاعتدال والتوازن، مسالمين مع الجميع، بعيدين عن التورط في النزاع القائم على التعصب مع الطوائف الإسلامية؛ وإنما ظلوا ينظرون إليها نظرةَ الأخوة والمسالمة، ولم يزالوا يَسْعَوْنَ لجمعها على نقطة من الاعتدال.
نعم، ولكنه لئن وُجِدَ من تحامَلَ بسوء الأدب على مذهب الاعتدال لأهل السنة والجماعة، أو أساء الأدب مع السلف الصالحين أوالأئمة، أو تجرّأ على تخطئتهم، أو اصطنع ممشىً بجانب جادّتهم؛ فإنهم إذاً لم يلازموا السكوت، وإنما نهضوا للدفاع عن ذلك بشكل موضوعيّ جادّ مُعَضَّدٍ بالدلائل. ولكنه لا يجوز أن يُوْصَفَ موقفهم ذلك بـ"النزاعأو بــ"العصبية" أو بـ"حمية الجاهلية" وإنما الواجب أن يوصف بـ"دفع النزاع" و "محاربة الشقاق" لأنهم امتثلوا﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِيْ هِيَ أحْسَنُ﴾(النحل / 125). فلا يخدش ذلك كونَهم مسالمين مع جميع الطوائف؛ لأن تأريخهم الممتدّ على أكثر من قرن و ربع قرن دليل ناطق على ذلك".